فصل: ذكر وصول الكندهري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر وصول الكندهري:

وهذا المذكور من ملوكهم وأعيانهم وصل في البحر في مراكب عدة ومعه من الأموال والذخائر والمسيرة والأسلحة والرجال عدد عظيم فقوي بوصوله عزمهم واشتد أزرهم وحدثتهم نفوسهم بطلب العسكر الإسلامي المنصور ليلاً وكثر ذلك الحديث على ألسنة المستأمنين والجواسيس فجمع السلطان الأمراء وأرباب الرأي واستشارهم فيما يفعل فكان آخر الرأي أنهم يوسعون الحلقة ويتأخرون عن العدو رجاء أن يخرج العدو ويبعد عن خيمه فيمكن الله منهم ووافقهم السلطان على ذلك وأوقعه الله في قلبه فرحل إلى جبل الخروبة بالعساكر بأسرها وذلك في السابع والعشرين من جمادى الآخرى وترك نقية من العسكر في تلك المنزلة كاليزك مقدار ألف فارس يتناوبون لحفظ النوبة. هذا والكتب متواصلة من عكا ومنا إليها على أجنحة الطيور وأيدي السياح والمراكب اللطاف تخرج ليلاً وتدخل سرقة من العدو. هذا وأخبار العدو الواصل من الشمال متواصلة بقلة خيله وعدده وما قد عراهم من الموت والمرض وأنهم قد اجتمعوا بأنطاكية وأنهم قد بقوا رجالة وأن أصحابنا عسكر حلب يتخطفون حشاشتهم وعلاقتهم ومن يخرج منهم.

.ذكر كتاب وصل من قسطنطينية يسر الله فتحها:

وكان بين السلطان وملك قسطنطينية مراسلة ومكاتبة وكان وصل منه رسول إلى باب السلطاني بمرج عيون هم رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة في جواب رسول كان أنفذه السلطان إليه بعد تقرير القواعد وإقامة قانون الخطبة في جامع قسطنطينية فمضى الرسول وأقام الخطبة ولقي احتراماً عظيماً وإكراماً زائداً وكان قد أنفذ معه في المراكب الخطيب والمنبر وجمعاً من المؤذنين والقراء وكان يوم دخولهم القسطنطينية يوماً عظيماً من أيام الإسلام شاهده جمع كثير من التجار ورقي الخطيب المنبر واجتمع إليه المسلمون المقيمون بها والتجار أقام الدعوة الإسلامية العباسية ثم عاد فعاد معه هذا الرسول يخبرنا بانتظار الحال في ذلك فأقام مدة. ولقد شاهدته يبلغ الرسالة ومعه ترجمان يترجم عنه وهو شيخ أحسن ما يفرض أن يكون من صور المشايخ وعليه زيهم الذي يختص بهم ومعه كتاب وتذكرة مختوم والكتاب بذهب ولما مات وصل إلى ملك قسطنطينية خبر وفاته فأنفذ هذا الرسول في تتمة ذلك ووصل معه الكتاب في جواب ذلك. وصورة ما فسر من الكتاب الواصل معه ووصفه أنه كان كتاباً مدرجاً عرضاً وهو دون عرض كتاب بغداد مترجماً ظاهره وبلطنه بسطرين بينهما فرجة وضع فيها الختم والختم من ذهب مطبوع كما يطبع الخاتم في الشمع على ختمه صورة ملك وزن الذهب خمسة عشر ديناراً مضمون السطرين المكتوبين ما هذا صورته: من إيساكيوس الملك المؤمن بالمسيح الإله المتوج من الله المنصور العالي أبداً أففقوس المدبر من الله القاهر الذي لا يغلب ضابط الروم بذاته أنكلوس إلى النسيب سلطان مصر صلاح الدين والحمية والمودة. قد وصل خط نسبتك الذي أنفذت إلى ملكي وقرأناه وعلمناه من أن رسولنا توفي وحزنا عليه حيث أنه توفي في بلد وريب وما قدر أن يتم كل ما رسم له ملكي وأمره أن يتحدث به مع نسبتك ويقول في حضرتك ولا بد لنسبتك أن تهتم بإنفاذ رسول إلى ملكي مع رسول المتوفى والقماش الذي خلقه ويوجد بعد موته لنعطيه أولاده وأقاربه وما أظن أنه يسمع من نسبتك أخباراً ودية وأنه قد سافر في بلادي الألمان ولا عجب فإن الأعداء يرجفون بأشياء مكذوبة على قدر أغراضهم ولو تشتهي أن تسمع الحق فإنهم قد تأذوا وتعبوا كثيراً أكثر مما أوذي فلاحو بلادك وقد خسروا كثيراً من المال والدواب والرجال ومات منهم وقتلوا وبالشدة قد تخلصوا من أيدي أجناد بلادي وقد ضعفوا بحيث أنهم لا يصلون إلى بلادك فإن وصلوا كانوا ضعافاً بعد شدة كبيرة لا ينفعون جنسهم ولا يضرون نسبتك. وبعد ذلك كيف نسيت الذي بيني وبينك وكيف ما عرفت لملكي شيئاً من المقاصد والمهمات. ما ربح ملكي من محبتك إلا عداوة الإفرنج وجنسهم، فوقف رحمه الله على هذه الترجمة وأكرم الرسول وأحسن مثواه. وكان شيخاً حسن الخلق نبيهاً عارفاً بالعربية والرومية والإفرنجية، ثم إن الإفرنج شدوا في حصار البلد وضايقوه لما قد حدث لهم من القوة بوصول الكندهري فإنه وصل على ما ذكر والله أعلم في عشرة آلاف مقاتل ووصلتهم نجدة أخرى في البحر قويت بها قلوبهم ونازلوا البلد بالقتال.

.ذكر حريق المنجنيقات:

وذلك أن العدو لما أحس في نفسه بقوته بسبب توالي النجدات عليهم اشتد طمعهم في البلد وركبوا عليه المنجنيقات من كل جانب وتناوبوا عليها بحيث لا يتعطل رميها ليلاً ولا نهاراً وذلك في أثناء رجب. ولما رأى أهل البلد ما نزل بهم من مضايقة العدو وتعلق طمعهم بهم حركتهم النخوة الإسلامية وكان مقدموه حينئذ أما والي البلد وحارسه فالأمير الكبير بهاء الدين قراقوش، وأما مقدم العسكر فالأمير الكبير الاسفهسلان حسام الدين أبو الهيجاء وكان رجلاً ذا كرم وشجاعة وتقدم في عشيرته، ومضاء في عزيمته فاجتمع رأيهم على أنهم يخرجون إلى العدو فارسهم وراجلهم على غرة وغفلة منهم ففعلوا ذلك وفتحت الأبواب وخرجوا دفعة واحدة من كل جانب ولم يشعر العدو إلا والسيف فيهم حاكم عادل، وسهم قدر الله وقضائه فيهم نافذ نازل، وهجم الإسلام على الكفر في منازله، وأخذ بناصية مناضله ورأس مقاتلة، ولما ولج المسلمون لخيام العدو ذهلوا عن المنجنيقات وحياطتها وحراستها. وحفظها وسياستها. فوصلت شهب الزراقين المقذوفة. وجاءت عوائد الله في نصرة دينه المألوفة. فلم تكن ساعة حتى اضطرمت فيها النيران. وتحرقت منها بيدها ما شيدها الأعداء في المدة الطويلة في أقرب آن. وقتل من العدو سبعون فارساً وأسر خلق عظيم وكان من جملة الأسرى رجل مذكور منهم ظفر به واحد من آحاد الناس ولم يعلم بمكانته. ولما انفصل الحرب سأل الإفرنج عنه هل هو حي أم لا فعرف الذي هو عنده عند سؤالهم أنه رجل كبير فيهم وخاف أن يغلب عليه ويرد بنوع مصانعة أو على وجه من الوجوه فسارع وقتله وبذل الإفرنج فيه أموالاً كثيرة ولم يزالوا يشتدون في طلبه ويحرصون عليه حتى ريئت لهم جثته فضربوا بنفوسهم الأرض وحثوا على رؤوسهم التراب ووقعت عليهم بسبب ذلك خمدة عظيمة وكتموا أمره ولم يظهروا من كان واستصغر المسلمون بعد ذلك أمرهم وهجم عليهم العرب من كل جانب يسرقون وينهبون ويقتلون ويأسرون إلى ليلة نصف شعبان وكان الكندهري قد أنفق على منجنيق كبير عظيم الشكل على ما نقل الجواسيس والمستأمنون ألفاً وخمسمائة دينار وأعده ليقدمه إلى البلد ومنع من حريقه في ذلك اليوم كونه بعيداً عن البلد لم يقدم بعد إليه. ولما كانت الليلة المباركة المذكورة خرج الزراقون والمقاتلة تحفظهم من كل جانب والله يكلأهم فساروا من تحت ستر الله حتى أتوا المنجنيق المذكور وأضرموا فيه النار فاحترق من ساعته ووقع الصياح من الطائفتين وذهل العدو فإنه كان بعيداً من البلد وخافوا أن يكونوا قد أحيط بهم من الجوانب وكان نصراً من عند الله وأحرق بلهيبه منجنيقاً لطيفاً إلى جانبه.

.ذكر الحيلة وإدخال عكا بطسة عمرها:

وأودعها أربعمائة غرارة من القمح ووضع فيها الجبن والبصل والغنم وغير ذلك من الميرة.
وكان الإفرنج خذلهم الله قد أداروا مراكبهم حول عكا حراسة لها من أن يدخلها مراكب المسلمين وكانت قد اشتدت حاجة من فيها إلى الطعام والميرة فركب في بطسة بيروت جماعة من المسلمين وتزيوا بزي الإفرنج حتى حلقوا لحاهم ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث ترى من بعد وعلقوا الصلبان وجاءوا قاصدين البلد من البعد حتى خالطوا مراكب العدو فخرجوا إليهم واعترضوهم في الحراقات والشواني وقالوا لهم نراكم قاصدين البلد واعتقدوا أنهم منهم فقالوا أولم تكونوا قد أخذتم البلد فقالوا لم نأخذ البلد بعد فقالوا نحن نرد القلوع إلى العسكر وقد أتي بطسة أخرى في هوائنا فأنذروهم حتى يدخلوا البلد وكان وراءهم بطسة إفرنجية قد اتفقت معهم في البحر قاصدة العسكر فنظروا فرأوها فقصدوها ينذرونها فاشتدت البطسة الإسلامية في السير واستقامت لها الريح حتى دخلت ميناء البلد وسلبت ولله الحمد. وكان فرحاً عظيماً فإن الحاجة كانت قد أخذت من أهل البلد وكان ذلك في العشر الأواخر من رجب.

.ذكر قصة العوام عيسى:

ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عواماً مسلماً يقال له عيسى وصل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو وكان ذات ليلة شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار وكتب للعسكر وعام في البحر فجرى عليه أمر أهلكه وأبطأ خبره عنا. وكانت عادته إذا دخل البلد أطار طيراً عرفنا بوصوله فأبطأ الطير فاستشعرنا هلاكه. ولما كان بعد أيام بينا الناس على طرف البحر في البلد إذا هو قد قذف شيئاً غريقاً فتفقدوه فوجدوه عيسى العوام ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب وكان الذهب نفقة للمجاهدين فما رؤي من أدى الأمانة في حال حياته وقد ردها في مماته إلا هذا الرجل وكان ذلك في العشر الأواخر من رجب أيضاً.

.ذكر حريق المنجنيقات:

وذلك أن العدو كان نصب على البلد منجنيقات هائلة حاكمة على السور وإن حجارتها تواترت حتى أثرت في السور أثراً بيناً وخيف من غائلاتها فأخذ سهمان من سهام الجرخ العظيم فأحرق نصلاهما حتى بقيا كالشعلة من النار ثم رميا في المنجنيق الواحد فعلقا فيه واجتهد العدو في إطفائهما فلم يقدر على ذلك وهبت ريح شديدة فاشتعل اشتعالاً عظيماً واتصلت لهبته بالآخر فأحرقته واشتد ناراهما بحيث لم يقدر أحد أن يقرب من مكانهما ليحتال في إطفائهما وكان يوماً عظيماً اشتد فيه فرح المسلمين وساءت عاقبة الكافرين.

.ذكر تمام حديث ملك الألمان والحيلة التي عملها المركيس:

ولما استقر قدم ملك الألمان في أنطاكية أخذها من صاحبها وحكم فيها، وكان بين يديه فيها ينفذ أوامره، فأخذها منه غيلة وخديعة وأودعها خزائنه وسار عنها في الخامس والعشرين من رجب متوجها نحو عكا في جيوشه وجموعه على طريق اللاذقية حتى إلى طرابلس، وكان قد سار إليه من معسكر الإفرنج يلتقيه المركيس صاحب صور، وكان من أعظمهم حيلة وأشدهم بأساً، وهو الأصل في تهييج الجموع من وراء البحر. وذلك أنه صوّر القدس في ورقة، وصوّر فيه صورة القمامة التي يحجون إليها ويعظمون شأنها وفيه قبة قبر المسيح الذي دفن فيه بعد صلبه بزعمهم، وذلك القبر هو أصل حجهم، وهو الذي يعتقدون نزول النور عليه في كل سنة في كل عيد من أعيادهم، وصوّر على القبر فرساً عليه فارس مسلم راكب عليه وقد وطئ قبر المسيح وبال الفرس على القبر وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع والقسوس يحملونها ورؤوسهم مكشوفة وعليهم المسوح وينادون بالويل والثبور، وللصور عمل في قلوبهم، فإنها أصل دينهم، فهاج بذلك خلق لا يحصي عددهم إلا الله، وكان من جملتهم ملك الألمان وجنوده فلقيهم المركيس لكونه أصلا في استدعائهم إلى هذه الواقعة، فلما اتصل به قوى قلبه ونصره بالطرق وسلك به الساحل خوفاً من أنه إذا أتى على بلاد حلب وحماة ثار لهم المسلمون من كل جانب وقامت عليهم كلمة الحق من كل صوب. ومع ذلك لم يسلموا من شن الغارات عليهم فإن الملك المظفر قصدهم بعساكره وجمع لهم جموعاً وهجم عليهم هجوماً عظيماً أخذ فيه من أطراف عساكره، وكان قد لحقهم بأوائل عسكره، ولو لحقهم الملك الظاهر بعساكره لقضى عليهم، ولن لكل أجل كتاب، واختلف حزر الناس لهم. ولقد وقفت على كتب بعض المخبرين بالحرب فقد حرز فارسهم وراجلهم بخمسة آلاف بعد أن كانوا قد خرجوا على ما ذكر، فانظر إلى صنع الله مع أعدائه. ولقد وقفت على بعض الكتب فذكر فيه أنهم لما ساروا من اللاذقية يريدون جبلة وجدوا في أعقابهم نيفاً وستين فرساً قد عطبت وانتزع لحمها ولم يبق فيها إلا العظام من شدة الجوع، ولم يزالوا سائرين وأيدي المسلمين تخطفهم من حولهم نهباً وقتلاً وأسرا، حتى أتوا طرابلس، ووصل خبر وصوله بكرة الثلاثاء ثامن شعبان سنة ست وثمانين وخمسمائة، هذا والسلطان ثابت الجأش راسخ القدم لا يرده ذلك عن حراسة عكا والحماية لها ومراصدة العسكر النازل بها وشن الغارات عليها والهجوم عليهم في كل وقت، مفوضا أمره إلى الله معتمداً عليه منبسط الوجه لقضاء حوائج الناس مواصلاً يسره من يفد إليه من الفقراء والفقهاء والمشايخ والأدباء. ولقد كنت إذا بلغني هذا الخبر تأثرت حتى دخلت عليه وأجد منه من قوة الله وشدة البأس ما يشرح صدري وأتيقن معه نصرة الإسلام وأهله.